في الملف المسمى «مكافحة الفساد في القضاء»، تبدو المدّعية العامة في جبل لبنان، القاضية غادة عون، أشبه بمدعٍ عام تمييزي. فهذا الملف ربما يكون أخطر ما مرّ على العدلية، منذ عقود. وفي حالات مماثلة، يتولى رأس النيابات العامة في البلاد الإشراف على التحقيقات، وإدارة عمل الاجهزة الأمنية. لكن المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود، يتصرّف كأنه «غير معني بإغضاب أحد»، في الأسابيع الاخيرة التي تسبق إحالته على التقاعد. «تخلى» عن دوره، لتملأ غادة عون الفراغ. صحيح أن الصلاحية المكانية في القضية تُجبرها على تولي التحقيق فيها، لكن أسباباً اخرى سمحت لها بتصدّر المشهد. فعدا عن «اعتكاف» حمود، تُعدّ عون رأس حربة قضائية في عهد الرئيس ميشال عون. وإضافة إلى ذلك، تساعدها شخصيتها. يقول عنها زملاء لها إنها «صلبة وشرسة ونظيفة الكفّ، وفي الوقت عينه إنسانية». و«شراستها» جعلتها، بحسب مسؤول امني، تمضي في هذه القضية حتى النهاية، مع أنّ بدايات هذا الملف كانت بتوقيف سائقها الذي عمل معها لنحو سبع سنوات.
غير أنّ هذا الجانب يقابله جانبٌ يُعدّه قضاة «فساداً» من نوعٍ آخر. في «التقدير المسلكي» للقاضية عون، لا يُعرف إن كانت متشددة أو متساهلة. تتعدّد الصفات التي تسمعها بشأنها. ورغم أنّها رفعت لواء مكافحة الفساد، يُردّد زملاء لها بأنّها تتراخى لصالح المحسوبين على التيار الوطني الحرّ. يُقال إنّ كل من يحكي معها باسم الجنرال ميشال عون، تتجاوب معه. بالنسبة إليها «الجنرال مقدّس». لدى القاضية عون شراسةٌ يُفترض توافرها في قضاة الملاحقة، لكنها أحياناً تُطبّق شراستها في الموضع الخطأ. ولعلّ حادثة طرد القضاة المتدرجين من مكتب محامية عامة في بعبدا قبل أسابيع، واحدة من سلسلة حوادث عُدَّت تسلّطاً غير قانوني وغير مُحِق من قبل عون. غير أن هناك من يعتبر أن فقدان الكيمياء بينها وبين عدد من القضاة، يدفعهم إلى تضخيم «خلافات صغيرة». وحادثة القضاة المتدرجين (قيل إن عون طردتهم من مكتب مدّعٍ عام في بعبدا) مثال على هذا الصراع.
تتعدّد الملفّات التي يتداولها قضاة وموظفون عن «تجاوزات» ينسبونها إلى القاضية عون، لكنّها لم تُساءَل بشأنها. ورغم أنّ معظم القضاة «يبصمون» على أنّ عون نظيفة الكفّ ولا تقبض الرشى، إلا أنّهم يتحدثون عمّا يُسمّونه «فساد سياسي» أو صرف نظر عمّن يوالون فئة سياسية معينة، وتحديداً التيار العوني. غير أنّ قضاة مقرّبين من القاضية عون يؤكدون أنّ بابها مفتوح للجميع، وأنّها تتساهل أحياناً مع حالات معينة من باب إنساني.
تكثر المآخذ التي تُسجّل ضد القاضية عون، لكن أبرزها الآتي:
1 - ما تردد عن تأخير مقصود لتعميم منع السفر عن شاهي يرڤانيان، رئيس مجلس إدارة Sayfco Holding، ما سمح بمغادرته الأراضي اللبنانية قبل توقيفه. وهنا تُتّهم القاضية عون بأنّها سهّلت هرب مطلوب مشتبه في اختلاسه ملايين الدولارات. غير أن مصادر مقرّبة من القاضية عون تؤكد أن الأخيرة أصدرت مذكرة إحضار شاهي فور علمها بوجوده على الأراضي اللبنانية من أحد المدّعين، مشيرة إلى أنه جرى دهم منزله من دون أن يُعثر عليه. عندها طلبت عون من القوى الأمنية تعميم بلاغ منع سفر بحقه. منع السفر صدر الساعة الخامسة بعد الظهر، فيما شاهي سافر قرابة الـ11 ليلاً. لماذا تأخّر تعميم المنع ما سمح بهروبه؟ تُجيب المصادر القضائية بأن المسؤولية تتحمّلها القوى الأمنية وليس القاضية، لأنّ كل ما كان ينقص المسألة إرسال فاكس إلى المطار بمنع السفر. لكن هل طلبت عون فتح تحقيق لمحاسبة المتواطئ أو المقصّر؟ لم تفعل ذلك.
2 - طريقة تعاملها مع قضية ابن مستشار وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، منصور فاضل، بحيث اتخذت قراراً يكاد يكون غير مسبوق في النيابات العامة. فابن فاضل ضُبط في حوزته «ميزان حسّاس» يستخدمه مروِّجو المخدرات، إلا أن القاضية عون أشارت بإخلاء سبيله، لكي لا يفوته موعد في إحدى السفارات، على أن يحضر للتحقيق معه في اليوم التالي. رغم أنّ الادعاء عليه كان بجرم ترويج المخدرات، إلا أنّها وافقت على قرار قاضي التحقيق إخلاء سبيله. وهذا ليس إجراءً اعتيادياً، لا سيما أنّ النيابة تكون متشددة مع المدعى عليهم بجرائم ترويج المخدرات. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن قاضياً آخر أجبِر على الاستقالة من القضاء بسبب قراره بإخلاء سبيل موقوف بجرم مخدرات ضُبط في حوزته ميزان حسّاس، وكُسِرت درجة المدعي العام الذي وافق على إخلاء السبيل.
ألا يطرح ما تقدم سؤالاً عن الدافع الذي دعا القاضية عون إلى اتخاذ قرار كهذا؟ وهل كانت ستفعل ذلك مع أي مواطنٍ آخر؟ في هذه القضية تردّ مصادر قضائية معنية لتقول إن القاضية تعاطفت مع شاب يافع ولم تُرِد تدمير مستقبله، لا سيما أنه لم يُضبط معه مخدرات، بخلاف القضية التي انتهت باستقالة قاضٍ حين ضُبطت كمية من المخدرات مع الموقوف. وتضيف المصادر أن «القاضي إنسان قبل أن يكون قاضياً. ليس عليه أن يحمل السيف لقطع الرؤوس، وكان لدى القاضية عون اقتناع بأن الموقوف يتعاطى المخدرات ولا يروّجها، مستندة الى اجتهاد في محكمة التمييز بأنّ الميزان الحساس وحده لا يكفي للإدانة».
3- قضية امرأة بحقّها بلاغ بحثٍ وتحرٍّ بجرم تحرير شيك بلا رصيد قيمته ٥٠ ألف دولار. أوقفت المطلوبة بتاريخ ١٣ تشرين الأوّل عام ٢٠١٨، إثر وصولها إلى المطار. غير أنّ القاضية عون أشارت بتركها بموجب سند إقامة وحجز هويتها وإبلاغها بمراجعة النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان خلال أسبوع. وهذا أمرٌ يُعدّ مخالفاً على الأقل في الشكل، لكونه لا يحقُّ لها أن تتركها. غير أنّ المصادر القضائية المقرّبة من عون ترد بأن الموقوفة نفت أن تكون قد أعطت شيكاً مصرفياً أصلاً. لكن هل يكفي نفي الموقوفة؟ مدّعى عليه آخر أوقف بموجب مذكرة توقيف بحقه صادرة عن قاضي التحقيق في جبل لبنان، بجرم شيك من دون مؤونة. ولدى مخابرة القاضية عون، أشارت بتنفيذ مذكرة التوقيف الغيابية الصادرة بحقّه وكفّ البحث وتركه مقابل أن يتعهّد بحل الخلاف مع الجهة المدعية، علماً بأنّه لا صلاحية لها في تنفيذ المذكرة أو كفّ البحث، لكون الصلاحية منعقدة حصراً للقاضي الذي أصدر مذكرة التوقيف.
4- حادثة رابعة يتحدّث عنها القضاة تتعلّق بخلاف وقع بين أحد المرافقين المدنيين لأحد الوزراء، وديبلوماسيَّين من التابعية القطرية. المرافق طارد الرجلين، فرفع أحدهما هاتفه ليصوّر المرافق، فعمد الأخير إلى إطلاق النار عليه من مسدس حربي، وأصابه بجرح طفيف في يده. وبدلاً من الادّعاء على المرافق بجناية محاولة القتل لكون التصويب كان باتجاه الصدر والرأس، ادعت عليه بجنحة «إطلاق نار وإيذاء». هذه الحادثة طُرِحت بشأنها تساؤلاتٌ أيضاً. غير أن المصادر القضائية بررت أن القاضية عون ادّعت على المرافق بجرم الإيذاء، لأن الإصابة كانت سطحية. إلا أن مصادر مقابلة اعتبرت أن مجرد استسهال إطلاق النار والتصويب باتجاه الصدر والرأس وحده كافٍ للادعاء بجناية.
5- بموجب محضر المخدرات الرقم ١٣٣٥/٣٠٢ بتاريخ ٢٨ آذار ٢٠١٨، ولدى التحقيق مع الموقوف ج. ج. ع.، أشارت القاضية عون بتركه بسند إقامة. ولدى وصول محضره إلى النيابة أحالته على قاضي التحقيق بجرم ترويج المخدرات. ملفٌّ آخر يجري التداول فيه، يتصل بتوقيف عناصر سرية مطار بيروت الدولي، فصيلة الضابطة العدلية، المواطن القطري أحمد محمد جاسم العلي، وفي حوزته كمية من المخدرات قُدِّرت بنحو 99 غراماً من حشيشة الكيف و«دفتر لفّ» و6 حبات كبتاغون، بموجب رقم المحضر ٣٠٢/٤١ بتاريخ ٣٠ كانون الثاني ٢٠١٩، لكنّه تُرِك لقاء سند إقامة بموجب إشارة القاضية عون. في الحالات العادية، يُفترض توقيف هذا الشخص. غير أن المصادر القضائية ترد بأن مئة غرام حشيشة ليست كمية ترويج، بل للتعاطي. والمشتبه فيه كان في صدد المغادرة، وإن أوقِف، فسيتم سجنه لأيام قليلة فقط. لذلك، أشارت عون بتركه (في غالبية حالات ضبط مخدرات مع مواطنين من دول الخليج وهم يغادرون لبنان، يتم تركهم بلا إحالتهم على القضاء).
الملفات التي تُثار بشأنها التساؤلات لم تقتصر على تلك التي أعطت إشارات بشأنها منذ تعيين عون مدعية عامة في بعبدا، بل يجري التداول أيضاً بملفات وأحكام نظرت فيها وأصدرتها عندما كانت رئيسة لمحكمة الجنايات في البقاع. على سبيل المثال، قضية الموقوف محمد م. ق. الذي صدر بحقه حكم غيابي في ١٢/١/٢٠١٧ بجرم تزوير عقد بيع ووكالة بيع رسمية، وأُلقي القبض عليه بتاريخ ٢١/٢/٢٠١٧ فقررت عون إخلاء سبيله بعد عشرة أيام من توقيفه، بكفالة قدرها سبعة ملايين ليرة. في هذا الملف انقسمت الآراء. عرضت «الأخبار» الملف على محامين وقضاة للوقوف على رأيهم. وفيما أكّد محامون وقضاة استحالة إخلاء سبيل محكوم بجناية بعد عشرة أيام على توقيفه، ذهب قاضٍ آخر إلى القول إنّه يمكنها إخلاؤه إذا ثبتت لها براءته، لكنه سأل: لماذا لم تُبرّئه إن كان قدّم دليلاً لا يرقى إليه الشك في مظلوميته؟ أما المحامون والقضاة الآخرون فأكدوا أنّ ما فعلته لا يعدّ مخالفة. واللافت في القضية أن المحكمة التي كانت ترأسها عون، عيّنت الجلسة وسيق الموقوف إلى الاستجواب وعُرِض الملف على النيابة العامة ثم استُجوب وقدّم سجلّاً عدلياً وأُخلي سبيله في يوم واحد، رغم وجود مدعٍ شخصي ضده من أصحاب العقارات التي جرى تزوير مستندات لبيعها. في المحصّلة، تعود للقاضي سلطة التقدير، لكن عندما يتّخذ هذا القاضي قراراً خارجاً عن المألوف، يُصبح التساؤل جائزاً. غير أن مصادر قضائية مقرّبة من القاضية عون ترد بأنه ربما أخطأت القاضية في تقديرها بإخلاء سبيله، لكنها تؤكد أنها أخذت في الاعتبار أنه طبيب وأنه وقع في الخطأ من دون دراية أو تقدير للعواقب، لذلك ارتأت الموافقة على تركه، مشيرة الى أن الموقوف المخلى سبيله لم يتوقف عن حضور جلسات المحاكمة الى اليوم.
رغم كل ما تقدّم، وفي ظل عدد من الملفات التي تُتداول بين الموظفين والقضاة والمحامين، الذين يتّهمون القاضية عون بأنّها «مرتكبة كغيرها من القضاة» أيضاً، إلا أنّ النائب العام في جبل لبنان تُصرّ على كونها ستمضي حتى النهاية في عملية تنظيف القضاء، أو ستذهب إلى المنزل. وفي معظم الملفات التي ذُكِرت اعلاه، تقدّم عون شرحاً وافياً عن كل حادثة لزملائها الذين يسألونها. تقرّ أحياناً بأنها «ربما» لم يكن يجدر بها إخلاء سبيل أحدهم لسبب أو لآخر، لكنّها تتحدّث عن اقتناع لدى القاضي يأخذها في الاعتبار عندما يتّخذ قراره أو يُصدر حُكمه أو يُعطي إشارته بترك مشتبه فيه أو توقيفه. ما تقدّم أوجد انقساماً بين القضاة بشأنها، لكنه يضيف المزيد من «الجلبة» حول شخصية قاضية «غير عادية»، تقود اليوم معركة طاحنة في «العدلية»، وتؤكد أنها لا تأبه إن بقيت في منصبها أو أُقيلت منه.